Leblad البلاد

قتلوا أنس، لأنه كان الشريف الذي لم يرضَ الضيم لمدينته وأهله هناك، لم يوضَ أن يظلوا مجوعين ومشردين على مرأى العالم المتخاذل.. قتلوا الشريف لأنه أثبت للعالم كذب ادعاءات الاحتـ ـلال المتكررة.

هذه وصية الشهيد، هل يا ترى نحملها على أكتافنا فعلًا؟ ابنته وابنه وأمه الذين أفقدهم الاحتـ ـلال ما لا يمكن تعويضه.. لا كلمات في الأرض تعوض فاقدًا عمن فقد، لا شيء يعوّض شام وصلاح وإلى جانبهم أطفال القطاع، عن آبائهم الذين ارتقوا وتركوهم وحيدين وسط الركام.

العربية كلها، على رحابتها، لا تصف عظم هذه الخسارة.. شام أنس الشريف فقدت والدها اليوم، ومليونا غزي فقدوا صوتهم المنادي بحقهم، ولا شيء يمكن أن يُعوض هذه الخسارة.. الاحتـ ـلال ماضٍ بجرائمه، والعالم ماضٍ بصمته وتخاذله. من يعوّض هذه الوردة -شام- عن فقدها؟

بعد 673 يومًا قضاها أنس الشريف ومحمد قريقع خلف الكاميرات، مجوّعين ونازحين وبعدين عن عائلاتهم وأطفالهم، آخذين على عاتقهم نقل الحقيقة وواقع الإبادة.. قتلهم الاحتـ ـلال.. مثلما قتل قبلهم مئات الصحفيين، لا كلمات تنصف هول هذا الفقد، ولا صحافة يمكن أن تعوض هذا النقص.. رحل أنس ومحمد وتركوا خلفهم حربًا تأكل كل ما يخرج في طريقها.

قد تختصر هذه الأسئلة العشرون واقع الحياة اليومية في قطاع غزة منذ ما يقرب من عامين، بين همّ المأوي واللقمة الطهي والماء والدواء وغير، تكمن الكثير من التفاصيل المؤلمة والمرهقة التي لا تختصرها الكلمات والأوصاف، تفاصيل سلبت من الغزيين وأجسادهم وقلوبهم الكثير، وأدخلتهم في أسئلة طويلة قد لا يجدون لها أجوبة.

محافظات قطاع غزة الخمسة تعاني التجويع وسوء التغذية بفعل وحشية الاحتـ ـلال، إذ لا تزال معابر القطاع مغلقة في وجه شاحنات المساعدات المكدسة خلفها، وسط إجراءات صارمة ومشددة لحرمان كل المحافظات من أي لقمة تسد رمق الصامدين.

"عن أي عصور ظلام من الممكن أن نتحدث ونحن في قلبِ عصرٍ ظلامي يُقتلُ فيه الأطفال بأعداد هائلة ويفرضُ فيه الجوع والعطش على ملايين الناس ويحلُ التعتيم الإعلامي وأي حديث عن هذه المأساة؟" جزء من نص لمقال للكاتب عاطف الشاعر نشر في صحيفة العربي الجديد

668 يومًا والنداء الأعلى صوتًا في القطاع نداء الطحين والخبز، أكثر من 150 يومًا والاحتـ ـلال ما زال يغلق المعابر ويجوّع الغزيين ويحرمهم من كل مقومات الحياة، لا طعام ولا ماء ولا دواء.

في غزة، لم تعد الولادة بداية حياة جديدة بقدر ما أصبحت اختبارًا قاسيًا للبقاء. نساء يلدن على الأرض بلا سرير، يُخاط جُرحهن من دون تخدير، ويغادرن المستشفى بعد ساعات بلا علاج أو متابعة. التقارير الطبية تكشف عن أكثر من 55 ألف حامل محرومات من الأدوية، فيما تعاني 90% من الحوامل والمرضعات من سوء تغذية حاد، ويُصنَّف ثلث الولادات بأنها "عالية الخطورة". في ظلّ انهيار النظام الصحي، تتحوّل كل ولادة إلى معركة، حيث يطل الموت على الأم والطفل معًا من غرفة الولادة.

بصمت ودون أن يتفوّه بكلمة، وصف ماهر حبوش باختصار حال غزة، الجميع مجوّع، والجميع يقصي نهاره يبحث عن لقمة تسد جوعه وجوع أطفاله، وكما قال هو نفسه: الدكتور والكابتن والوزير كلهم في غزة سواسية.

في غزة، تتحول كسور العظام إلى أحكام بتر مؤجلة. فمنذ أشهر يمنع الاحتلال دخول شرائح "البلاتين" اللازمة لتثبيت العظام، ما اضطر المستشفيات إلى إعادة استخدام الأدوات بعد تعقيمها، في مشهد يختزل انهيار المنظومة الصحية تحت الحصار. أكثر من 111,500 جريح يقفون اليوم في طابور العلاج، فيما تُؤجَّل عشرات العمليات يومياً لغياب المستلزمات. الأطباء يتحدثون عن نقص يتجاوز الخيوط الجراحية والشاش إلى غياب أبسط المسكنات. وفي غرف مكتظة بالجرحى، يعلو الأنين بينما تتسارع احتمالات فقدان الأطراف. إنها حربٌ لا تستهدف البشر فقط، بل حقهم في الحياة والعلاج.

أكثر من 12,500 سيدة غزية قتلها الاحتـ ـلال خلال 665 يومًا من العدوان الوحشي، وهذه الغزية المكلومة، تصف بفصاحة لسانها، حالها وحال أهلها في القطاع بعد أن خذلهم العالم كله. ما يزال الاحتـ ـلال يمعن في قتل الغزيين، قصفًا وقنصًا وتجويعًا وحرمانًا من العلاج داخل القطاع وخارجه، وأوضاع من تبقّى على قيد الحياة من مليوني غزي أقل ما يقال عنها إنها كارثية في ظل انعدام كل مقومات الحياة هناك.

جيل كامل من أطفال غزة يعيش اليوم في مهب التجويع، محاصرًا بين الجوع ونقص الغذاء والدواء. المستشفيات تستقبل أكثر من 20 ألف طفل يعانون من سوء التغذية الحاد، فيما يواجه 300 ألف طفل دون سن الخامسة خطر الانهيار الصحي ما لم تصل المكملات الغذائية بشكل عاجل. وفي الوقت الذي يفتقر فيه القطاع إلى أدنى مقومات الحياة، يواصل الأطفال دفع الثمن الأفدح، إذ ارتقى 159 شهيدًا بينهم 90 طفلًا بسبب الجوع ونقص التغذية. إنها مأساة صامتة تتكشف أمام أعين العالم، حيث يُقتل براءة الأطفال قبل أن تكبر، ويُكتب لجيل كامل أن يذبل جوعًا.

في مستشفى العودة، وجد الأطباء ورقة في جيب أحد الشهداء. ورقة بسيطة لكنها تكشف جانبًا آخر من الحياة تحت النار: وسط الخراب ظل هناك من يكتب للحب. هبوش وحبيبها اختاروا أن يتركوا اعترافًا صغيرًا بأن للحياة معنى آخر غير الحرب. هذا الأثر الصغير يذكّر أن الناس، حتى في أقسى الظروف، يحملون معهم القدرة على أن يحبوا وأن يتمسّكوا بما يتجاوز "إسرائيل" واحتلالـــها.

22 شهرًا مرت.. والإبادة تقترب من إنهاء عامها الثاني، مرت الساعات والدقائق فوق جثث الغزيين، وأخذت من دمائهم وعافيتهم وأموالهم كل استطاعت أن تأخذه، والاحتـ ـلال ما يزال يوجد المزيد من الأساليب والسائل القادرة على سلب أرواح المزيد منهم ومن أطفالهم. أكثر من 60,000 ألف شهيد فقدتهم غزة، ومن تبقوا نالهم من العذاب ما نالهم، النزوح الذي اعتبرته غزية "أسوأ ما قد يجربه إنسان طوال حياته"، والخيمة التي نالت منهم صيفًا وشتاء، والجوع الذي أكل صحتهم وأجسادهم وأفقدهم القدرة حتى على الكلام. الإبادة مستمرة، وعداد الساعات والأيام ما زال يعد المزيد، على ذلك على مرأى العالم ومسمعه، ولا أحد يحرك ساكنًا!

مسرحية متكاملة الأركان يقيمها مسؤولو الاحتـ ـلال اليوم عند مراكز المساعدات التي قتلت أكثر من 1000 غزي، وأصابت أكثر من 6000 آخرين، استعراض يتشارك فيه ركنا العدوان الأساسيان، الاحتـ ـلال وأمريكا، ولكن العجيب أكثر، أنه حتى من يستفيد من هذا الاستعراض هو شريكهم كذلك.. ياسر أبو شباب وأعوانه.

منذ أن بدأت مؤسسة غزة "الإنسانية" عملها لتوزيع المساعدات والطحين على المجوّعين في غزة، تضاعفت أعداد شهداء لقمة العيش في تلك البقعة المنكوبة، حتى وصلت حسب مجلة إيكونوميست البريطانية إلى أكثر من 8 أضعاف، وذلك بارتقاء أكثر من 1265 شهيدا ونحو 8552 مصابا، في مجازر مراكز المساعدات. إجرام الاحتـ ـلال في استهداف المجوعين عند مراكز المساعدات دعا الكثير من الغزيين إلى عدم الذهاب لتلك المناطق، فخلفهم أطفال ينتظرون اللقمة الآمنة، وعلى ذلك، كانت العديد من الحلول الأخرى التي لا تغني من جوع، لكنها تسد الرمق للقليل من الوقت بعد. التكايا والأسواق والبحر والأشجار والنباتات والمقايضة، كانت حلولًا مؤقتة لمحاولة كسر التجويع، لكنها لم تكن حلولًا آمنة كذلك، فالأسواق باهظة الأسعار، والبحر يشكل خطرًا على حياتهم، والنباتات لم تعد وفيرة كالسابق… وهكذا يمضي الغزي يكابد في الحياة على أمل سد جوعه… ذلك السلاح الذي اتخذه الاحتـ ـلال مصيدة فتاكة.

أكثر من 17,000 طفل فقدوا حياتهم في غزة، فيما تجاوز عدد الجرحى من الأطفال 33,000، بحسب بيانات الأونروا. هذه الأرقام الصادمة تعني أن كل يوم يمر يشهد إبادة صف دراسي كامل يضم 28 طفلًا. مأساة لا يمكن للعقل البشري أن يستوعبها، إذ يتحول الحق الطبيعي في الحياة والتعليم واللعب إلى موت مبكر وإصابة وإعاقة. إنها ليست مجرد إحصاءات، بل حكايات مقطوعة لأجيال بكاملها، تُمحى من السجل الإنساني يومًا بعد يوم.

في غزة المحاصرة، تتحول النفايات إلى وقود بقاء. فقد تراكم حتى منتصف عام 2025 نحو 175 ألف طن من المخلفات، منها ما يقارب 14% – 16% بلاستيك قابل للاحتراق. ومع غياب الوقود والغاز منذ أكثر من عشرين شهرًا، باتت هذه النفايات موردًا أساسيًا للطاقة في حياة السكان. في السوق السوداء، تنتج ورش بدائية نحو 400 لتر يوميًا من وقود البلاستيك، يباع اللتر الواحد منه بـ 15 دولارًا، مقارنة بسعر السولار الذي وصل إلى 70 دولارًا للتر. رغم المخاطر البيئية والصحية، صار هذا الوقود البديل يشغّل المولدات والمواقد، كاشفًا ملامح اقتصاد ظل فرضه الحصار.