Leblad البلاد

في غزة المحاصرة، تتحول النفايات إلى وقود بقاء. فقد تراكم حتى منتصف عام 2025 نحو 175 ألف طن من المخلفات، منها ما يقارب 14% – 16% بلاستيك قابل للاحتراق. ومع غياب الوقود والغاز منذ أكثر من عشرين شهرًا، باتت هذه النفايات موردًا أساسيًا للطاقة في حياة السكان. في السوق السوداء، تنتج ورش بدائية نحو 400 لتر يوميًا من وقود البلاستيك، يباع اللتر الواحد منه بـ 15 دولارًا، مقارنة بسعر السولار الذي وصل إلى 70 دولارًا للتر. رغم المخاطر البيئية والصحية، صار هذا الوقود البديل يشغّل المولدات والمواقد، كاشفًا ملامح اقتصاد ظل فرضه الحصار.

تحاول هذه الأم الغزية تهدئة طفلها ليغفو وينام في خيمة النزوح المهترئة، على وقع أصوات الصواريخ والرصاص، ووسط الرعب والخوف الممتدين.. وحال هذه الغزية حال الآلاف من الأمهات هناك.

قبل 17 عامًا خرج المسيري رحمه الله ينادي بنفس ما يُنادى به اليوم لنصرة غزة، يستنهض الشباب لكوّنوا موقفًا عمليًّا منفصلًا عن حكوماتهم المنخاذلة، إلى جانب المقاطعة، بكل أشكالها، تلك التي بدأ الناس يبعدون عنها يومًا بعد يوم. على ما يبدو أن الحكومات العربية والعالمية لن تتحرك، فأكثر من 21 شهرًا مر على بدء الإبادة، ولا شيء سوى الشجب والاستنكار والمزيد من البيانات، لذلك لا حل إلا أن يتحرك شباب العالم على نحو جماعي مكثف… فهل نشهد ذلك فعلًا؟

منذ أكثر من 152 يومًا والاحتـ ـلال يعلق معابر القطاع بالكامل، المجاعة تضرب هناك بكل أشكالها، مئات الشهداء، وعشرات آلاف المجوّعين، وآلاف المرضى جراء المجاعة، والعالم يقف ساكنًا معتادًا للمشهد.. مشاهد الشاحنات المصطفة خلف معبر رفح دفعت الكثيرين للتشكيك بجدوى التبرع للقطاع، فمن كان يتبرع بالقليل بداية الإبادة، لم يعد يتبرع اليوم، رغم أن عزة اليوم في أشد أوقاتها حاجة للتبرعات والمساعدات، لذلك تحرّوا الطريقة المناسبة للمساعدة.

في غزة يقف أكثر من 15,000 مريض عند بوابة انتظار بلا نهاية، يحملون أوراق تحويلات طبية مكتملة الإجراءات، لكنهم عاجزون عن السفر للعلاج. من بين هؤلاء أكثر من 5,100 جريح أصيبوا مباشرة في العدوان الإسرائيلي، بعضهم في حالات حرجة تتطلب تدخلاً عاجلاً، ومع ذلك يبقى مصيرهم معلقاً بقرار سياسي لا علاقة له بالطب أو بالإنسانية. منذ بداية العدوان أُغلقت وحدة العلاج بالخارج التابعة لوزارة الصحة في غزة، لتنتقل مسؤولية الملف إلى منظمة الصحة العالمية، غير أنّ دورها لا يتجاوز التنسيق الشكلي مع الاحتلال. في النهاية، الكلمة الفصل تبقى بيد "إسرائيل"، التي حولت الحق في العلاج إلى ورقة ضغط جديدة على مصير أبناء غزة وجرحاها.

662 يومًا مرت على حرب الإبادة التي يعيشها الغزيون على مرأي العالم كله، وكل أنباء القتل والتجويع والنزوح والمعاناة لم تعد سوى جزءًا مما يشاهده العالم اليوم، لا تتعدى ذلك، إذ يقف العالم صامتًا متخاذلًا.. مشاهدًا فقط لا أكثر.

في غزة، لم يعد بلح البحر طعامًا غريبًا، بل صار وجبة اضطرارية لعائلات فقدت كل مقومات الحياة. لا طحين، لا خبز، ولا حتى ماء نظيف. 93٪ من السكان يعانون من انعدام الأمن الغذائي، وثلثهم يُصنَّف ضمن حالات سوء التغذية، بينما "إسرائيل" تواصل استخدام التجويع كسلاح ممنهج. الأسعار ارتفعت بنسبة 437٪، والقوة الشرائية انهارت إلى 11٪. ما يجري ليس "ظروف حرب"، بل تجويع متعمد تقوده "إسرائيل" ويحميه صمت دولي مخزٍ. أن تأكل عائلات بأكملها من البحر لا يعني صمودًا فقط، بل يفضح جريمة تُرتكب يوميًا بحقّ أكثر من مليوني إنسان. في غزة، الجوع قرار "إسرائيلي" لا خطأ تقني في وصول المساعدات.

أكثر من 19 ألف طفل غزي ارتقوا منذ بدء الإبادث، وحال هذا الرجل المكلوم حال عشرات الآباء الغزيين الذين أفقدهم الاحتـ ـلال فلذات أكبادهم. تمضي هذه الحرب بعد 662 يومًا منها بقتل المزيد والمزيد من أحبائنا وأطفالنا وأمهاتنا، ولا جديد فيها سوى المزيد من القتل والتجويع والحرمان والحصار بعد 150 يومًا من إغلاق المعابر.

انتهت المهلة الزمنية لما سُمّيت "هدنة إنسانية"، دون أن تصل إلى غزة شاحنة واحدة تحمل ما يُبقي الناس على قيد الحياة. في المقابل، عاد هدير الطائرات إلى السماء، وكأن الليل قد خُصّص لتعويض ساعات الجوع بقصفٍ أعنف. لا هدنة حقيقية.. ولا إنسانية في حسابات الحـــــرب على أهالي غزة.

في سابقة هي الأولى من نوعها، صنّفت الوكالة الهولندية للأمن ومكافحة الإرهاب "إسرائيل" كـ"تهديد مباشر" للأمن القومي الهولندي، في تقرير رسمي صدر نهاية يوليو 2025. وأوضح التقرير أن "إسرائيل" سعت للتأثير على السياسة والرأي العام في هولندا من خلال حملات تضليل إعلامي، وتهديدات موجهة للمحكمة الجنائية الدولية في لاهاي. كما اتهمت هولندا "إسرائيل" بإرسال وثائق غير رسمية إلى صحفيين وسياسيين، تتضمّن أسماء مواطنين هولنديين متضامنين مع فلسطين، ما يعرّضهم للخطر. التقرير أشار أيضًا إلى تورط جمهور فريق "مكابي تل أبيب" في أحداث عنف وهتافات عنصرية في أمستردام.

حرب إبادة متكاملة شينها الاحتـ ـلال على قطاع غزة منذ 661 يومًا، تجويع ممنهج، وهدم وممنهج، وقتل ممنهج لكل أشكال الحياة في القطاع المنكوب، في الوقت الذي يروّج فيه الاحتـ ـلال لترتيب هجرة طوعية للغزيين، أي هجرة طوعية تلك لأكثر من 200 ألف جريح لا يجدون علاجًا بسيطًا لهم داخل القطاع؟

اليوم أُعلنت نتائج التوجيهي، لكن لائحة الأوائل خلت من أسماء أوائل فلسطين الحقيقيين؛ من نزفوا تحت الركام، ومن صمدوا في وجه التجويع والقتل والحصار. في غزة وحدها، أكثر من سبعين ألف طالب حُرموا من حقهم في التوجيهي لعامين متتاليين، وفي الضفة ما زال الحصار يطوّق الطلبة كل صباح. هذه النتائج ناقصة، لأن الحقيقة لم تُكتب بعد.

أعلن المتحدث باسم الدفاع المدني قبل قليل أن ما يدخل من مساعدات إلى غزة محدود جدًا، ونحو 10 شاحنات فقط دخلت اليوم إلى القطاع، وأكد على عدم جواز الانسياق وراء الدعاية المتعلقة بإدخال المساعدات إلى قطاع غزة.

غزة تموت تجويعًا.. بين من ينتظر المساعدات، ومن يتضور جوعًا، مات الآلاف من الغزيين، والعالم يقف صامتًا متفرجًا لا يحرك ساكنًا.. غزة تفقد أبناءها يومًا بعد يوم، بكل أشكال الموت ووسائله. كارثة إنسانية حقيقية يواجهها القطاع مع استمرار الحصار وإغلاق المعابر ومنع تدفق المساعدات منذ 148 يومًا، في الوقت الذي يحتاج القطاع فيه يوميًّا إلى 600 شاحنة إغاثية تشمل حليب الأطفال والمساعدات الإنسانية والوقود لتلبية الحد الأدنى من احتياجات السكان.

في ظل التهدئة الجزئية التي تغلّفها بروباغندا إعلامية مضلِّلة، تُروَّج على أنها انفراجة، بينما هي في الواقع مجرّد استراحة قاتلة في مسلسل الإبادة، يؤكّد د. منير البرش أن "الهدنة ليست وقتًا للصمت، بل لإنقاذ من تبقّى على قيد الحياة"، فهذه الهدنة لن تعني شيئًا ما لم تتحول إلى فرصة حقيقية لوقف نزيف الأرواح، لا لتلميع الصورة أو تمرير الوقت حتى تُستأنف المجازر من جديد.

في ظل التهدئة الجزئية التي تغلّفها بروباغندا إعلامية مضلِّلة، تُروَّج على أنها انفراجة، بينما هي في الواقع مجرّد استراحة قاتلة في مسلسل الإبادة، يؤكّد د. منير البرش أن "الهدنة ليست وقتًا للصمت، بل لإنقاذ من تبقّى على قيد الحياة"، فهذه الهدنة لن تعني شيئًا ما لم تتحول إلى فرصة حقيقية لوقف نزيف الأرواح، لا لتلميع الصورة أو تمرير الوقت حتى تُستأنف المجازر من جديد.

في قطاع غزة، لم يُنتج غرام واحد من العسل خلال ثلاثة مواسم متتالية، منذ بدء العدوان، بعد أن دمّرت آلة الحرب الإسرائيلية نحو 90% من طاقة الإنتاج، وسُحقت خلايا النحل وجُرفت المراعي التي كانت تغذيها. من أصل 30 ألف خلية نحل كانت تنتج أكثر من 400 طن سنويًا، لم يتبقَّ سوى بضع آلاف، فيما فقد النحالون 27 ألف خلية وتضرر 76% من الغطاء النباتي. يقول النحال علي أبو حسنة بحرقة: "ما كان يمرّ يوم دون أن أُقرص فيه من النحل.. واليوم لا أعرف إن بقيت نحلة واحدة". هذا الخراب طال لقمة العيش قبل أن يطال العسل ذاته.

وصف الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش ما يحدث في غزة بأنه "أزمة أخلاقية تتحدى الضمير العالمي"، وليس مجرد أزمة إنسانية فقط، ،أكّد أن الكلمات لا تطعم الأطفال الجياع هناك. غوتيريش ذكر أنه منذ 27 مايو الماضي سجّلت المنظمة مقتل "أكثر من ألف فلسطيني أثناء محاولتهم الحصول على الغذاء"، وأضاف "لم يُقتلوا في القتال، بل في حالة يأس بينما يتضور جميع السكان جوعا".

تريندات إبر المونجارو والأوزمبيك تغزو هذا العالم المتخم بالطعام.. زيادة الوزن هي المرض الأكثر انتشارًا في هذا العالم ذاته الذي يسكن فيه الغزيون، الذين ارتقى منهم أكثر من 100 شهيد مجوّع.. بسن هذا وذاك الكثير من التناقضات التي بررت للعالم صمتهم وخذلانهم طيبة 660 يومًا. #البلاد

تتزايد أعداد شهداء المجاعة يومًا بعد يوم، في مجاعة لا يمكن عزوها إلى نقص الطعان في القطاع، أو سوء آلية توزيع المساعدات، أو استهداف عاملي الإغاثة، رغم أن كل تلك قد مارسها الاحتـ ـلال في غزة، إلا أن العنوان الأساس لكل ذلك، هو نظام زمتكامل أركان ابتدعه هناك ألا وهو «هندسة التجويع». أكثر من 100 شهيد ارتقوا تجويعًا، وأكثر من 1000 آخرين ارتقوا عند مراكز المساعدات المسماة بالإنسانية، كل يوم تتفاقم أوضاع القطاع المجوّع، ويوما بعد يوم يبدو المشهد أكثر وحشية وتعمّدا.